فصل: ذكر الفتنة بطرابلس الغرب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر الفتنة بطرابلس الغرب

في هذه السنة كثر شغب أهل طرابلس الغرب على ولاتهم وكان إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية قد استعمل عليهم عدة ولاة فكانوا يشكون من ولاتهم فيعزلهم ويولي غيرهم فاستعمل عليهم هذه السنة سفيان بن المضاء وهي ولايته الرابعة فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم وإعادته إلى القيروان فزحفوا إليه فأخذ سلاحه وقاتلهم هو وجماعة ممن معه فأخرجوه من داره فدخل المسجد الجامع فقاتلهم فيه فقتلوا أصحابه ثم أمنوه فخرج عنهم في شعبان من هذه السنة فكانت ولايته سبعًا وعشرين يومًا‏.‏

واستعمل الجند الذين بطرابلس على البلد وأهله إبراهيم بن سفيان التميمي‏.‏

ثم وقع بين الأبناء بطرابلس أيضًا وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة وقتال حتى فسدت طرابلس فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب فأرسل جمعًا من الجند وأمرهم أن يحضروا الأبناء وبني أبي كنانة وبني يوسف فأحضروهم عنده بالقيروان في ذي الحجة فلما قدموا عليه سألوه العفوعنهم في الذي فعلوه فعفا عنهم فعادوا إلى بلدهم‏.‏

  ذكر عدة حوادث

فيها كان الفداء بين المسلمين والروم فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به‏.‏

وحج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

وفيها ولى الرشيد عبد الله بن مالك طبرستان والري ودنباوند وقومس وهمذان وهومتوجه إلى الري فقال أبوالعتاهية في مسيره إليها وكان الرشيد ولد بها‏:‏ إن أمين الله في خلقه حن به البر إلى مولده ليصلح الري وأقطارها ويمطر الخير بها من يده وفيها مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه صاحب أبي حنيفة وحميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي أبوعوف وسابق بن عبد الله الموصلي وكان من الصالحين البكائين من خشية

 حوادث سنة تسعين ومائة

  ذكر خلع رافع بن الليث بن نصر

وفي هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بما وراء النهر مخالفًا للرشيد بسمرقند‏.‏

وكان سبب ذلك أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان وكانت ذات يسار ولسان ثم تركها بسمرقند وأقام ببغداد واتخذ السراري فلما طال ذلك عليها أرادت التخلص منه وبلغ رافعًا خبرها فطمع فيها وفي مالها فدس إليها من قال لها‏:‏ إنه لا سبيل إلى الخلاص من زوجها إلا أن تشهد عليها قومًا أنها أشركت بالله ثم تتوب فينفسخ نكاحها وتحل للأزواج ففعلت ذلك وتزوجها رافع‏.‏

فبلغ الخبر يحيى بن الأشعث فشكا إلى الرشيد فكتب إلى علي بن عيسى بن ماهان يأمره أن يفرق بينهما وأن يعاقب رافعا ويجلده الحد ويقيده ويطوف به في سمرقند على حمار ليكون عظة لغيره ففعل به ذلك ولم يحده وطلقها رافع وحبس بسمرقند فهرب من الحبس فلحق بعلي بن عيسى ببلخ فأراد ضرب عنقه فشفع فيه عيسى بن علي بن عيسى وأمره بالانصراف إلى سمرقند فرجع إليها ووثب بعامل علي بن عيسى عليها فقتله واستولى عليها فوجه إليه ابنه فلقيه فهزمه رافع فأخذ

  ذكر فتح هرقلة

في هذه السنة فتح الرشيد هرقلة وأخربها وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه سنة سبع وثمانين ومائة من غدر نقفور وكان فتحها في شوال وكان حصرها ثلاثين يوما وسبى أهلها وكان قد دخل البلاد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفًا من المرتزقة سوى الأتباع والمتطوعة ومن لا ديوان له وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بن عيسى بن موسى سائرًا في أرض الروم في سبعين ألفًا يخرب وينهب ففتح الله عليه وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودلسة وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقونية واستعمل حميد بن معيوف على سواحل الشام ومصر فبلغ قبرس فهدم واحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفًا فأقدمهم الرافقة فبيعوا بها وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار‏.‏

ثم سار الرشيد إلى طوانة فنزل بها ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر‏.‏

وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير وعن رأس ولده دينارين وعن بطارقته كذلك وكتب نقفور إلى الرشيد في جارية من سبي هرقلة كان خطبها لولده فأرسلها إليه‏.‏

  ذكرعدة حوادث

وخرج في هذه السنة خارجي من ناحية عبد القيس يقال له سيف بن بكير فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد ين مزيد فقتله بعين النورة‏.‏

وفيها نقض أهل قبرس العهد فعزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها‏.‏

وحج بالناس عيسى بن موسى الهادي‏.‏

وفيها اسلم الفضل بن سهل على يد المأمون وقيل بل أسلم أبوه سهل على يد المهدي وكان محبوس أن وقيل أسلم الفضل وأخوه الحسن على يد يحيى بن خالد فاختاره يحيى لخدمة المأمون فلهذا كان الفضل يرعى البرامكة ويثني عليهم ولقب بذي الرئاستين لأنه تقلد الوزارة والسيف وكان يتشيع وهوالذي أشار على المامون بالعهد لعلي بن موسى الرضي عليه السلام‏.‏

وكان على الموصل هذه السنة خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب ولما دخل الموصل أنكسر لواؤه في باب المدينة فتطير منه وكان معه أبوالشيص الشاعر فقال في ذلك‏:‏

ما كان منكسر اللواء لطيرة ** تخشى ولا أمر يكون مويلا

لكن هذا الرمح أضعف ركنه صغر الولاية فاستقل الموصلا فسري عن خالد

وفيها غزا الرشيد الصائفة واستخلف المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور وكتب إليه الآفاق بذلك ودفع إليه خاتم المنصور تيمنًا به ونقشه‏:‏ الله ثقتي آمنت به‏.‏

وفيها خرجت الروم إلى عين زربي والكنيسة السوداء وأغاروا فاستنقذ أهل المصيصة ما كان معهم من الغنيمة‏.‏

وفيها توفي أسد بن عمروبن عامر أبوالمنذر البجلي الكوفي صاحب أبي حنيفة‏.‏

وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوسًا بالرافقة في المحرم وعمره سبعون سنة وعمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري‏.‏

 حوادث سنة إحدى وتسعين ومائة

  ذكر الفتنة من أهل طليطلة وهو وقعة الحفرة

في هذه السنة أوقع الأمير الحكم بن هشام الأموي صاحب الأندلس بأهل طليطلة فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها‏.‏

وسبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا في الأمراء وخلعوهم مرة بعد أخرى وقويت

نفوسهم بحصانة بلدهم وكثرة أموالهم فلم يكونوا يطيعون أمراءهم طاعة مرضية فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الحيلة في الظفر بهم فاستعان في ذلك بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد وكان قد ظهر في هذا الوقت بالثغر الأعلى فأظهر طاعة الحكم ودعا إليه فاطمأن إليه بهذا السبب وكان من أهل مدينة وشقة فاستحضره فحضر عنده فأكرمه الحكم وبالغ في إكرامه وأطلعه على عزمه في أهل طليطلة وواطأه على التدبير عليهم فولاه طليطلة وكتب إلى أهلها يقول‏:‏ إني قد اخترت لكم فلانا وهومنكم لتطمئن قلوبكم إليه وأعفيتكم ممن تكرهون من عمالنا وموالينا ولتعرفوا جميل رأينا فيكم‏.‏

فمضى عمروس إليهم ودخل طليطلة فأنس به أهلها واطمأنوا إليه وأحسن عشرتهم وكان أول ما عمل عليهم من الحيلة أن أظهر لهم موافقتهم على بغض بني أمية وخلع طاعتهم فمالوا إليه ووثقوا بما يفعله ثم قال لهم‏:‏ إن سبب الشر بينكم وبين أصحاب الأمير إمنا هواختلاطهم بكم وقد رأيت أن أبني بناء أعتزل فيه أنا وأصحاب السلطان رفقًا بكم فأجابوه إلى ذلك فبنى في وسط البلد ما أراد‏.‏

فلما مضى لذلك مدة كتب الأمير الحكم إلى عامل له على الثغر الأعلى سرًا يأمره أن يرسل إليه يستغيث من جيوش الكفرة وطلب النجدة والعساكر ففعل العامل ذلك فحشد الحكم الجيوش

من كل ناحية واستعمل عليهم ابنه عبد الرحمن لدخولها فأتاه وهوعندها الخبر من ذلك العامل أن عساكر الكفرة قد تفرقت وكفى الله شرها فتفرق العسكر وعزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة فقال عمروس عند ذلك لأهل طليطلة‏:‏ قد ترون نزول ولد الحكم إلى جانبي وإنه يلزمني الخروج إليه وقضاء حقه فإن نشطتم لذلك وإلا سرت إليه وحدي فخرج معه وجوه أهل طليطلة فأكرمهم عبد الرحمن وأحسن إليهم‏.‏

وكان الحكم قد أرسل مع ولده خادمًا له ومعه كتاب لطيف إلى عمروس فأتاه الخادم وصاحه وسلم الكتاب إليه من غير أن يحادثه فلما قرأ عمروس الكتاب رأى فيه كيف تكون الحيلة على أهل طليطلة فأشار إلى أعيان أهلها بأن يسألوا عبد الرحمن الدخول إليهم ليرى هو وأهل عسكره كثرتهم ومنعتهم وقوتهم فظنوه ينصحهم ففعلوا ذلك وأدخلوا عبد الرحمن البلد ونزل مع عمروس في داره وأتاه أهل طليطلة أرسالًا يسلمون عليه‏.‏

وأشاع عمروس أن عبد الرحمن يريد أن يتخذ لهم وليمة عظيمة وشرع في الاستعداد لذلك وواعدهم يومًا ذكره وقرر معهم أن يدخلون من باب ويخرجون من آخر ليقل الزحام ففعلوا ذلك‏.‏

فلما كان اليوم المذكور أتاه الناس أفواجا فكان كلما دخل فوج أخذوا وحملوا إلى جماعة من

الجند على حفرة كبيرة في ذلك القصر فضربت رقابهم عليها فلما تعالى النهار أتى بعضهم فلم ير أحدا فقال‏:‏ أين الناس فقيل‏:‏ إنهم يدخلون من هذا الباب ويخرجون من الباب الآخر فقال‏:‏ ما لقيني منهم أحد وعلم الحال وصاح وأعلم الناس هلاك أصحابهم فكان سبب نجاة من بقي منهم فذلت رقابهم بعدها وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن ثم انجبرت مصيبتهم وكثروا فلما هلك عبد الرحمن وولي ابنه محمد عاجلوه بالخلع على ما نذكره‏.‏

  ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبة

وفيها عصى أصبغ بن عبد اله ووافقه أهل مدينة ماردة من الأندلس على الحكم وأخرجوا عامله واتصل الخبر بالحكم فسار إليها وحاصرها فبيمنا هومجد في الحصار أتاه الخبر عن أهل قرطبة أنهم أعلنوا العصيان له فرجع مبادرا فوصل إلى قرطبة في ثلاثة أيام وكشف عن الذين أثاروا الفتنة فصلبهم منكسين وضرب أعناق جماعة فارتدع الباقون بذلك واشتدت كراهيتهم له‏.‏

ولم يزل أهل مادرة تارة يطيعون ومرة يعصون إلى سنة اثنتين وتسعين فضعف أمر أصبغ لأن الحكم تابع إرسال الجيوش إليه واستمال جماعة من أعيان أهل ماردة وثقاته من أصحابه فمالوا إليه وفارقوا اصبغ حتى أخوه فتحير أصبغ وضعفت نفسه فأرسل يطلب الأمان فأمنه الحكم ففارق ماردة وحضر عند الحكم وأقام عنده بقرطبة‏.‏

  ذكر غزو الفرنج بالأندلس

في هذه السنة تجهز لذريق ملك الفرنج بالأندلس وجمع جموعه ليسير إلى مدينة طرطوشة ليحصرها فبلغ ذلك الحكم فجمع العساكر وسيرها مع ولده عبد الرحمن فاجتمعوا في جيش عظيم وتبعهم كثير من المتطوعة فساروا فلقوا الفرنج في أطراف بلادهم قبل أن ينالوا من بلاد المسلمين شيئا فاقتتلوا وبذل كل من الطائفتين جهده واستنفد وسعه فأنزل الله تعالى نصره على المسلمين فانهزم الكفار وكثر القتل فيهم والأسر ونهبت أموالهم وأثقالهم وعاد المسلمون ظافرين غامنين‏.‏

  ذكر عصيان حزم على الحكم

في هذه السنة خالف حزم بن وهب بناحية باجة ووافقه غيره وقصدوا لشبونة وكان الحكم يسمي حزما في كتبه النبطي فلما سمع الحكم خبره سير إليه ابنه هشامًا في جمع كثير فأذله

  ذكر عزل علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاية هرثمة

وفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وكان سبب ذلك ما ذكرناه من قتل ابنه عيسى فلما قتل جزع عليه أبوه فخرج عن بلخ إلى مرومخافة عليها أن يسير إليها رافع بن الليث ليأخذها وكان ابنه عيسى قد دفن في بستان في داره ببلخ أموالًا عظيمةً قيل كانت ثلاثين ألف ألف ولم يعلم بها أبوه ولم يطلع عليها إلا جارية له فلما سار علي بن عيسى إلى مرو أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم وتحدث به الناس واجتمعوا ودخلوا البستان ونهبوا المال وبلغ الرشيد الخبر فقال‏:‏ خرج عن بلخ عن غير أمري وخلف مثل هذا المال وهويزعن أنه قد باع حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع‏!‏ فعزله واستعمل هرثمة بن أعين‏.‏

وكان قد نقم الرشيد عليه ما كان يبلغه من سوء سيرته وإهانته أعيان الناس واستخفافه بهم فمن ذلك أنه دخل عليه يومًا الحسين بن مصعب والد طاهر بن الحسين وهشام بن فرخسرو فسلما عليه فقال للحسين‏:‏ لا سلم الله عليك يا ملحد بن الملحد والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوة الإسلام والطعن في الدين ولم أنتظر بقتلك إلا أمر الخليفة ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد أن ثملت من الحزم وزعمت أنك جاءتك كتب من بغداد بعزلي اخرج إلى سخط الله لعنك الله فعن قريب ما يكون منها فاعتذر إليه فلم يقبل عذره وأمر بإخراجه فأخرج‏.‏

وقال لهشام بن فرخسرو‏:‏ صارت دارك دار الندوة يجتمع إليك السفهاء تطعن على الولادة سفك الله دمي إن لم أسفك دمك‏!‏ فاعتذر إليه فلم يعذره فأخرجه‏.‏

فأما الحسين فسار إلى الرشيد فاستجار به وشكا إليه فأجاره وأما هشام فإنه قال لبنت له‏:‏ إني أخاف الأمير على دمي وأنا مفض إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت وإن أنت كتمته سلمت‏.‏

قالت‏:‏ وما هو قال‏:‏ قد عزمت على أن أظهر أن الفالج قد أصابني فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك واقصدي فراشي وحركيني فإذا رأيت حركتي تقلت فصيحي أنت وجواريك واجمعي إخواتك فأعلميهم علتي ففعلت ما أمرها وكانت عاقلة فأقام مطروحًا على فراشه حينًا إلى أن جاء هرثمة واليا فركب إلى لقائه فرآه علي بن عيسى بن ماهان فقال‏:‏ إلى أين فقال‏:‏ أتلقى الأمير أبا حاتم‏.‏

قال‏:‏ ألم تكن عليلًا فقال‏:‏ وهب الله العافية وعزل الطاغية في ليلة واحدة فعلى هذا تكون ولاية هرثمة ظاهرة‏.‏

وقيل‏:‏ بل كانت ولايته سرا لم يطلع الرشيد عليها أحدا فقيل‏:‏ إنه لما أراد عزل علي بن عيسى استدعى هرثمة وأسر إليه ذلك وقال له‏:‏ إن علي بن عيسى قد كتب يستمدني

بالعساكر والأموال فأظهر للناس أنك تسير إليه نجدة له‏.‏

وكتب له الرشيد كتابًا بولايته بخط يده وأمر أن يكتبوا له إلي علي بن عيسى بأنه قد سير هرثمة نجدة له‏.‏

فسار هرثمة ولا يعلم بأمره أحد حتى ورد نيسابور فلما وردها استعمل أصحابه على كورها وسار مجدًا يسبق الخبر فأتى مرو والتقاه علي بن عيسى فاحترمه هرثمة وعظمه حتى دخل البلد ثم قبض عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف وكانت خزائنه وأثاثه على ألف وخمسمائة بعير فأخذ الرشيد ذلك كله وكان وصول هرثمة إلى خراسان سنة اثنتين وتسعين فلما فرغ هرثمة من أخذ أموالهم أقامهم لمطالبة الناس وكتب إلى الرشيد بذلك وسير علي بن عيسى إليه على بعير بغير وطاء ولا غطاء‏.‏

  ذكر عدة حوادث

فيها خرج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايا وتنقل في السواد فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه طوق وجرحه وقتل عامة أصحابه‏.‏

وفيها خرج أبوالنداء بالشام فسير الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ وعقد له على الشام‏.‏

وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني‏.‏

وفيها أرسل أهل نسف إلى رافع بن الليث يسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي بن عيسى وعلي بن عيسى فأرسل إليهم جمعا فقتلوا عيسى وحده في ذي القعدة‏.‏

وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف فأخذت الروم عليه المضيق فقتلوه وخمسين رجلا وسلم الباقون وكان ذلك على مرحلتين من طرسوس‏.‏

وفيها استعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان وضم إليه ثلاثين ألفًا من أهل خراسان ورتب الرشيد بدرب الحدث عبد الله بن مالك وبمرعش سعيد بن سلم بن قتيبة فأغارت الروم عليها فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرك سعيد من موضعه وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرسوس‏.‏

وأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من رمضان وعاد إلى الرقة وأمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم وأمر هرثمة ببناء طرسوس وتمصيرها ففعل وتولى ذلك فرج الخادم بأمر الرشيد وسير إليها جندًا من أهل خراسان ثلاثة آلاف ثم أشخص إليهم ألفًا من أهل المصيصة وألفًا من أهل أنطاكية وتم بناؤها سنة اثنتين وتسعين ومائة وبنى مسجدها‏.‏

وحج بالناس هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي وكان أميرًا على مكة وكان على

وفيها توفي الفضل بن موسى السيناني أبوعبد الله المروزي مولى بني قطيعة وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة‏.‏

السيناين بكسر السين المهملة وبالياء المثناة من تحت وبالنون قبل الألف ثم بنون بعده منسوب إلى سينان وهي قرية من قرى مرو‏.‏

  حوادث سنة اثنتين وتسعين ومائة

  ذكرمسير الرشيد إلى خراسان

فيها سار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع بن الليث وكان مريضًا واستخلف على الرقة ابنه القاسم وضم إليه خزيمة بن خازم وسار من بغداد إلى النهروان لخمس خلون من شعبان واستخلف على بغداد ابنه الأمين وأمر المأمون بالمقام ببغداد‏.‏

فقال الفضل بن سهل للمأمون حين أراد الرشيد المسير إلى خراسان‏:‏ لست تدري ما يحدث بالرشيد وخراسان ولايتك ومحمد الأمين المقدم عليك وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهوابن زبيدة وأخواله بنوهاشم وزبيدة وأموالها فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه فطلب إليه ذلك فأجابه بعد امتناع‏.‏

فلما سار الرشيد سايره الصباح الطبري فقال له‏:‏ يا صباح لا أظنك تراني أبدا فدعا فقال‏:‏ ما أظنك تدري ما أجد‏.‏

قال الصباح‏:‏ لا والله فعدل عن الطريق واستظل بشجرة وأمر خواصه بالبعد فكشف عن بطنه‏.‏

فإذا عليه عصابة حرير فقال‏:‏ هذه علة أكتمها الناس كلهم ولكل واحد من ولدي علي رقيب فمسرور رقيب المأمون وجبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين وما منهم أحد إلا وهويحصي أنفاسي ويستطيل دهري وإن أردت أن تعلم ذلك فالساعة أدعوبدابة فيأتوني بدابة أعجف قطوف لتزيد بي علتي فاكتم علي ذلك‏.‏

فدعا له بالبقاء ثم طلب الرشيد دابة فجاؤوا بها على ما وصف فنظر إلى الصباح وركبها‏.‏

  ذكر عدة حوادث

وفيها تحركت الخرمية بناحية أذربيجان فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وأسر ووافه بقرماسين فأمره بقتل الأسرى وبيع السبي‏.‏

وفيها قدم يحيى بن معاذ على الرشيد بأبي النداء فقتله‏.‏

وفيها فارق جماعة من القواد رافع بن الليث وصاروا إلى هرثمة منهم عجيف بن عنبسة وغيره‏.‏

وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن نصر بن مالك فافتتح مطمورة‏.‏

وفيها كان الفداء بالبذندون‏.‏

وفيها خرج ثروان الحروري بطف البصرة فقاتل عامل السلطان بها‏.‏

وفيها مات عيسى بن جعفر بن المنصور بالدسكرة وهويريد اللحاق بالرشيد‏.‏

وفيها قتل الرشيد الهيصم الكناني وحج بالناس هذه السنة العباس بن عبد الله بن جعفر بن المنصور‏.‏

وفيها كان وصول هرثمة إلى خراسان كما تقدم وحصر هرثمة رافع بن الليث بسمرقند وضايقه واستقدم طاهر بن الحسين فحضر عنده وخلت خراسان لحمزة الخارجي حتى دخلها وصار يقتل ويجمع الأموال ويحملها إليه عمال هراة وسجستان فخرج إليه عبد الرحمن النيسابوري فاجتمع إليه نحوعشرين ألفا فسار إلى حمزة فقاتله قتالًا شديدًا فقتل من أصحاب حمزة خلقا وسار خلفه حتى بلغ هراة وكان ذلك سنة أربع وتسعين فكتب إليه المأمون فرده وأدام هرثمة على حصار سمرقند حتى فتحها على ما نذكره إن شاء الله تعالى وقتل رافع بن الليث وجماعة من أقربائه واستعمل على ما وراء النهر بن يحيى فعاد وكان قتله رافعًا سنة خمس وتسعين‏.‏

وفي هذه السنة توفي عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي ويوسف بن أبي يوسف

وفيها كان الفداء الثاني بين المسلمين والروم وكان القيم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي وكان عدة الأسرى من المسلمين ألفين وخمسمائة أسير‏.‏

 حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائة

  ذكر موت الفضل بن يحيى

في هذه السنة مات الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة وكانت علته أنه أصابه ثقل في لسانه وشقه فعولج أشهرا فبرأ وكان يقول‏:‏ ما أحب أن يموت الرشيد لأن أمري قريب من أمره‏.‏

فلما صح من علته وتحدث عادته العلة واشتدت عليه وانعقد لسانه وطرفه فمات في المحرم وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه ثم أخرج فصلى عليه الناس وجزع الناس عليه‏.‏

وكان موته قبل الرشيد بخمسة أشهر وهوابن خمس وأربعين سنة وكان من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله ولاشتهار أخباره وأخبار أهله وحسن سيرتهم لم نذكرها‏.‏

وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري‏.‏

وفيها كانت وقعة بين هرثمة وأصحاب رافع كان الظفر لهرثمة وافتتح بخاري وأسر بشيرًا

  ذكر موت الرشيد

وفي هذه السنة مات الرشيد أول جمادى الآخرة لثلاث خلون منه وكانت قد اشتدت علته بالطريق بجرجان فسار إلى طوس فمات بها‏.‏

قال جبرائيل بن بختيشوع‏:‏ كنت مع الرشيد بالرقة وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة أتعرف حاله في ليلته ثم يحدثني وينبسط إليّ ويسألني عن أخبار العامة فدخلت عليه يوما فسلمت عليه فلم يكد يرفع طرفه ورأيته عابسًا مفكرًا مهموما فوقفت مليًا من النهار وهوعلى تلك الحال فلما طال ذلك أقدمت فسألته عن حاله وما سببه فقال‏:‏ إن فكري وهمي لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتني وملأت صدري‏.‏

فقلت‏:‏ فرجت عني يا أمير المؤمنين ثم قبلت يده ورجله وقلت‏:‏ الرؤيا إمنا تكون لخاطر أوبخارات ردية وتهاويل السوداء وهي أضغاث أحلام‏.‏

قال‏:‏ فإني أقصها عليك رأيت كأني جالس على سريري هذا إذ بدت من تحتي ذراع أعرفهأن وكف أعرفها لا أفهم اسم صاحبها وفي الكف تربة حمراء‏.‏

فقال لي قائل اسمعه ولا أرى شخصه‏:‏ هذه التربة التي تدفن فيها فقلت‏:‏ وأين هذه التربة قال‏:‏ طوس وغابت اليد فقلت‏:‏ أحسبك لما أخذت مضجعك فكرت في خراسان وما ورد عليك منها وانتقاض بعضها فذلك الفكر أوجب هذه الرؤيا‏.‏

فقال‏:‏ كان ذلك فأمرته باللهو والانبساط ففعل ونسينا الرؤيا وطالت الأيام ثم سار إلى خراسان لحرب رافع فلما صار ببعض الطريق ابتدأت به العلة فلم تزل تزيد حتى دخلنا طوس فبينا هويمرض في بستان في ذلك القصر الذي هوفيه إذ ذكرتلك الرؤيا فوثب متحاملًا يقوم ويسقط فاجتمعنا إليه نسأله فقال‏:‏ أت ذكررؤياي بالرقة في طوس ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال‏:‏ جئني من تربة هذا البستان‏!‏ فأتاه بها في كفه حاسرًا عن ذراعه فلما نظر إليه قال‏:‏ هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي وهذه الكف بعينها وهذه التربة الحمراء ما خرمت شيئًا وأقبل على البكاء والنحيب ثم مات بعد ثلاثة أيام‏.‏

قال أبوجعفر‏:‏ لما سار الرشيد عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في صفر وقد اشتدت علته فسير ابنه المأمون إلى مرو وسير معه من القواد عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسندي الحرشي ونعيم بن حازم وسار الرشيد إلى طوس واشتد به الوجع حتى ضعف عن الحركة فلما أثقل أرجف به الناس فبلغه ذلك فأمر بمركوب ليركبه ليراه الناس فأتي بفرس فلم يقدر على النهوض فأتي ببرذون فلم يطق

ووصل إليه وهو بطوس بشير بن الليث أخو رافع أسيرا فقال الرشيد‏:‏ والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت اقتلوه‏.‏

ثم دعا بقصاب فأمر به ففصل أعضاءه فلما فرغ منه أغمي عليه وتفرق الناس عنه‏.‏

فلما أيس من نفسه أمر بقبره فحفر في موضع من الدار التي كان فيها وأنزل إليه قوما فقرأوا فيه القرآن حتى ختموا وهوفي محفة على شفير القبر يقول‏:‏ ابن آدم تصير إلى هذا وكان يقول في تلك الحال‏:‏ واسوأتاه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

وقال الهيثم بن عدي‏:‏ لما حضرت الرشيد الوفاة غشي عليه ففتح عينيه منها فرأى الفضل بن الربيع على رأسه فقال‏:‏ يا فضل‏:‏ أحين دنا ما كنت أرجو دنوه رمتني عيون الناس من كل جاني فأصبحت مرحومًا وكنت محسدًا فصبرًا لي مكروه أمن العواقب سأبكي على الوصل الذي كان بيننا وأندب أيام السرور الذواهب قال سهل بن صاعد‏:‏ كنت عند الرشيد وهو يجود بنفسه فدعا بملحفة غليظة فاجتبى بها وجعل يقاسي ما يقاسي فنهضت فقال‏:‏ اقعد فقعدت طويلًا لا يكلمني ولا أكلمه فنهضت فقال‏:‏ أين سهل فقلت‏:‏ ما يتسع قلبي يا أمير المؤمنين يعاني من المرض ما يعاني فلواضطجعت يا أمير المؤمنين فضحك ضحك صحيح ثم قال‏:‏ يا سهل‏!‏ اذكرفي هذه الحال قول الشاعر‏:‏

وإني من قوم كرام يزيدهم ** شماسًا وصبرًا شدة الحدثان

ثم مات وصلى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد‏.‏

وكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وقيل ملك ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا وستة عشر يوما وكان عمره سبعًا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام وكان جميلا وسيمًا أبيض جعدًا قد وخطه الشيب قال‏:‏ وكان في بيت المال لما توفي تسعمائة ألف ألف ونيف‏.‏